
عبد النبي حجازي
لئن كان ثمة التباس في تأثير "دبليوبوش" المندهش أبداً على شخصية وزيرة خارجيته "كوندوليزا رايس" أو تأثيرها عليه لضيق المسافة بين حمق "دبليوبوش" وعقلانيته , كضيق المسافة بين الغموض والوضوح في شخصية "رايس" وضيق المسافة بين عبوسها وابتسامها . فهي عندما تزور إسرائيل تلتمع على عينيها الضيقتين ابتسامة رضا غير قادرة أن تحلّ عقدة حاجبيها المكفهرة المحفورة في وجهها بإحكام وأن تغطي تكشيرتها التلقائية . وعندما تلتفت نحو بلد عربي ـ على الخصوص ـ أو أفريقي أو آسيوي تبدو شامخة متجهمة مستلبة بردة فعل التعصب العنصري الذي عانت منه منذ طفولتها واستمر حتى جعلها تخسر حياتها الشخصية لتبقى عانساً وتخسر حياتها العامة لتكون ذراع القهر المتينة العاتية بيد المحافظين الجدد .
في العام 1961 تتجه طفلة سوداء لم تبلغ السابعة مع أمها إلى غرفة قياس الملابس في أكبر متاجر "برمنغهام" في ولاية "الباما الأمريكية" فتعترض طريقهما بائعة بيضاء قائلة : "هذه الغرفة مخصّصة للبيض" وتشير إلى مخزن صغير للملابس ملحق بالمتجر قائلة : "هذا مكان القياس الخاصّ بكم" في منطقة "تيتوسفيل" بمدينة "بيرمينغهام" التي تعيش فيها طبقة متوسطة من الزنوج في جوٍّ من التعصب العنصري الشديد رزق الزنجي "جون رايس" الواعظ بمدرسة ثانوية للزنوج من زوجته المعلمة "انجيلينا"في الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954أي مثل هذه الأيام مولودة سمياها "كوندوليزا" ومعناه حسب اصطلاح موسيقي ايطالي "الحلاوة " وكانت وحيدة أبويها . يقول عنها أحد معارفها في سن الطفولة : "عندما كنا نلعب ونلهو كانت دائماً مهذبة تقضي معظم أوقاتها مع الراشدين"
خلال تظاهرات برمنغهام عام 1968 ضد العنصرية التي حركت ضمائر الحكومة الفيدرالية فأصبحت مشروعات قوانين الحقوق المدنية نافذة كان "جون رايس" يشارك فيها ويحضّ الأطفال على المشاركة وقد قتلت فيها طفلة كانت من رفيقات ابنته "كوندو" التي دفعها تأثرها بالحدث ان تفتتن بدراسة مبادئ "القوة" وفي العام 1965 أخذها أبوها إلى واشنطن وكانت في سن الحادية عشرة وقال لها مازحاً حالماً (حلماً مستحيلاً) : "تستطيعين أن تصبحي رئيسة في يوم من الأيام" في وقت كان لايُسمح لكثير من السود أن يدلوا بأصواتهم .
فازت "كوندو" بمنح دراسية مرموقة وبعد نيلها الماجستر عملت في البنتاغون وكان "كولن باول" حينها رئيساً لهيئة أركان القوات المسلحة . ثم حصلت على الدكتوراه في "الاستيراتيجية العالمية" من كلية العلاقات الدولية في جامعة "دنفر" وهي بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية تتكلم الروسية والفرنسية والألمانية والإسبانية .وفي عهد الرئيس "بوش الأب" اكتشفها "سكوكروفت" مستشاره للأمن القومي وعهد إليها بوظيفة في مجلس إدارة شركة "شيفرون" ثم تسلمت منصب مديرة إدارة جامعة "ستانفورد" وكانت أول امرأة سوداء ، وأصغر امرأة تتبوّأ هذا المنصب .
وفي شهر نيسان (ابريل) 1998 عهد إليها وزير الخارجية السابق "جورج شولتز" وكان زميلها في جامعة "ستانفورد" بتدريب المرشح الجمهوري للرئاسة "جورج دبليو بوش" حاكم تكساس . وعندما تولّى"دبليوبوش" رئاسة الولايات في 20 كانون الثاني (يناير) عام 2001 اختارها مستشارة للأمن القومي وهي أول امرأة تتمتع بهذا المنصب الذي يمكن أن يعني كل شيء أو لاشيء لأن المستشار لايرأس وزارة ولا يقود جنوداً . يصفها الكاتب الأمريكي (ايفان توماس) بأنها أمرأة دافئة ، هادئة ، محترمة , تتمتع بابتسامة عريضة لكنها قوية حازمة تماماً كما يريدها الرئيس الذي تتكلم باسمه وتتمتع بثقته الكلية أن تكون . وهي أول من يراه في الصباح وآخر من يراه في المساء حتى أصبحت منه كالمرأة وراء الرجل . ولعلها لوكانت على مسحة من الجمال ـ على مافيها من قوة ـ لكانت أثارت غيرة السيدة "لورا بوش" .
إن "رايس" امرأة عملها هو كل حياتها ولم تمارس أيّ نشاط اجتماعي أو غير اجتماعي ولا يُعرف عنها أنها مارست أية تجربة عاطفية وقد قالت لصديق مقرب إنها تفضل الخروج مع رجال سود لكن حلمها ـ على مايبدو ـ ضاع سُدى . قالت مازحة لمراسل مجلة "نيوزويك" خلال مقابلة أجريت معها: "هل تحاولون أن تجعلوا مني مدام سفين ؟" تعني تلك التي كانت مرافقة للويس الرابع عشر ، ومحظيته في القرن ال (17) وكانت تشتهر بنشر الإشاعات أما "رايس" فهي على العكس تماماً تريد أن يتصورها الناس غامضة .
يقول عنها مساعدوها إنها دائماً فخورة أنيقة شديدة الاهتمام بمظهرها تحتفظ بمرآتين لترى نفسها من الأمام والخلف ويطلقون عليها لقب (الأميرة المحاربة) بيد أنها لم تكن تتظاهر كهنري كيسنجر أنها أستاذة في الاستيراتيحية العالمية . يعلق "توماس" قائلاً :" لاأحد يشكّ بقوتها لكنها ليست عبقرية مثل كيسنجر " تقول "رايس" عن "بوش" إنه رجل غريزي ومهمتها أن تقوم بتوجيه هذه الغرائز بشكل عقلاني وأن تقود نزعاته المعنوية . لذلك فإنها تلعب دوراً هاماً في السياسة الخارجية الأمريكية ، وفي صياغة خطب "بوش" وهي من مؤيدي فكرة :"الحرب العالمية على الإرهاب" ومن مشجعيها والمحرضين عليها ومن مؤيدي " محاربة الدول الراعية للإرهاب ! وتسميتها بمحور الشر"
. وفي حين كانت تتبنى موقف "بوش" المتشدّد كانت تميل قليلاً ـ من وراء الستار ـ إلى موقف "كولن باول" المتساهل أكثر من ميلها إلى غطرسة الصقور "ديك تشيني" و"رامزفيلد" الذي تراه متعجرفاً ومزهواً بالقوة التي تعود إلى الخمسينات ويقول "بوش" عن "رايس" إن شخصيتها إيجابية بشكل كبير وإنها ذكية تتمتع بإمكانيات كبيرة . وإذ تبدو في الظاهر شخصيتا بوش" و"رايس" متناقضتين فهو الفتى الأبيض الثري من تكساس القلق دائماً الذي لديه مدى قصير للتركيز والذي لم ينجح في الدراسة . وهي الفتاة السوداء التي تنتمي إلى طبقة متوسطة والمتفوقة في الدراسة والحازمة الصلبة الهادئة . وتشترك معه في أن كلاً منهما يتمتع بشخصية استقلالية وبالرغبة الشديدة في ممارسة الرياضة , ومشاهدة المباريات على التلفزيون وفي مجموعة صفات هي أن كلاهما متديّن جداً متعصّب جداً يتميّز بروح مسيحية قوية . هي تنتسب إلى الكنيسة المشيخية وهو إلى الكنيسة المنهجية .
وفي السادس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2005 اختارها "بوش" وزيرة للخارجية بعد أن استقال "كولن باول" الذي كانت على علاقة طيبة به . وحين يُقال إن "رايس" تتعرض لضغوط المحافظين لتخوض انتخابات الرئاسة عام 2008 وإنها تمانع يبدو أن المهم هو أن هذه الطفلة التي كانت أقصى أمنياتها أن تصبح مفوضة لرابطة كرة القدم أوعازفة بيانو في فرقة موسيقية قد حققت أكثر بكثير من أحلامها وأوهام والدها . والأهم ماقاله عنها زنجي أمريكي خلال التظاهرات التي قامت في واشنطن تندد بأمريكا وإسرائيل أثناء الحرب على لبنان : "جاؤوا بنا واسترقّونا وانتظرنا خمسمئة عام حتى تخرج منا "رايس" لتشارك في تدمير الأمم الآمنة".
anhijazi@aloola.sy • أفدت في كتابة هذا المقال من مجلة "نيوزويك" الأمريكية التي أجرت دراسة عن "رايس" إبان استلامها منصب مستشارة الأمن القومي لدى "دبليوبوش"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق